مع انقشاع غبار الحرب الإسرائيلية-الأمريكية على إيران، عادت الأنظار سريعًا إلى قطاع غزة، حيث يبرز تحرك سياسي تقوده واشنطن بالتنسيق مع تل أبيب لإعادة ضبط مسار الحرب، فقد جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة، التي عبّر فيها عن تفاؤله بقرب التوصل إلى صفقة تتضمن استعادة الأسرى وعودة الهدوء، لتفتح الباب أمام مقاربة جديدة تُرسم لمستقبل القطاع.
هذه التصريحات لم تكن معزولة، بل ترافقت مع خطوات أمريكية متسارعة وانسجام واضح من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، سواء على مستوى الخطاب أو الممارسة، فيما يبدو أنه تنسيق محكم بين الجانبين بشأن الشكل القادم لإدارة الحرب في غزة.
إذ تسعى الإدارة الأمريكية لاستثمار الزخم السياسي والعسكري الذي خلّفته الحرب على إيران، في سياق أوسع لإعادة ترتيب خارطة الشرق الأوسط، بما يشمل إطفاء بؤر التوتر الساخنة، وعلى رأسها قطاع غزة، من خلال إنهاء النمط القائم لحرب الإبادة، والدفع نحو صيغة أكثر توافقًا مع الرؤية الإسرائيلية طويلة المدى.
🔴 #ترامب يعلن موافقة “إسرائيل” على “الشروط الضرورية” لوقف إطلاق النار في غزة لمدة 60 يومًا.
🔴 الوساطة تتم عبر #قطر و #مصر، مع إشادة ترامب بجهودهما لتحقيق السلام.
🔴 الاقتراح يشمل:
📍وقف إطلاق نار لمدة 60 يومًا.
📍الإفراج عن 8 أسرى إسرائيليين أحياء في اليوم الأول.
📍تسليم… pic.twitter.com/37Ri4wSlTq— نون بوست (@NoonPost) July 2, 2025
التحرك الأمريكي: إعادة قولبة الأدوات وليس الأهداف
في تطور لافت، كشف الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن “إسرائيل” باتت على أعتاب إقرار هدنة في قطاع غزة تمتد لمدة 60 يومًا، مؤكدًا أن تلك الفترة ستُستغل للعمل مع مختلف الأطراف من أجل إنهاء الحرب.
وأوضح ترامب، في منشور عبر منصته “تروث سوشال”، أن ممثلين عنه عقدوا اجتماعًا مطولًا وبنّاءً مع مسؤولين إسرائيليين، معربًا عن أمله في أن تقبل حركة حماس بالاقتراح “لأن الوضع لن يتحسن، بل سيزداد سوءًا”، على حد وصفه. وأشار إلى أن المقترح النهائي ستقدمه الوساطة القطرية والمصرية.
تزامن هذا التصريح مع زيارة وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر إلى واشنطن، حيث التقى المبعوث الرئاسي الأميركي ستيف ويتكوف لبحث تفاصيل ما يُعرف بخطة “اليوم التالي” في قطاع غزة. ووفقًا لموقع “أكسيوس”، فإن هذه اللقاءات تُمهّد لعقد قمة بين ترامب ونتنياهو في البيت الأبيض خلال الأيام المقبلة، في إطار دفع جهود صياغة مخرج سياسي للحرب.
تركّز الخطة الأميركية بشكل رئيسي على مستقبل الحكم في غزة دون “حماس”، وضمانات أمنية تضمن عدم عودتها، وهو ما يعتبره البيت الأبيض شرطًا أساسيًا لأي وقف نهائي لإطلاق النار، ورغم الطابع الدبلوماسي للمقترح، إلا أن جوهر المقاربة الأميركية لا يبتعد كثيرًا عن الأهداف الإسرائيلية التي لم يُكتب لها التحقق حتى الآن عبر العمليات العسكرية.
إذ إن حديث واشنطن عن “إعادة تشكيل غزة” ما هو إلا محاولة لإعادة قولبة الوسائل لتحقيق ذات الأهداف: تحييد المقاومة، وتفكيك حكم حماس، وتحويل غزة إلى كيان منزوع التأثير في المعادلة الوطنية، بما يفتح الباب لمشاريع التهجير والتصفية.
هذه المرة الأولى التي يعلن فيها نتنياهو، بشكل صريح، أن أولوية استعادة الأسرى باتت تسبق هزيمة “حماس”، في تغيير لافت لخطابه الذي ظل لأشهر يؤكد أن “النصر المطلق” لا يكتمل إلا بإسقاط حماس
في هذا السياق، كشفت صحيفة “يسرائيل هيوم” أن ترامب طرح في اتصال هاتفي مع نتنياهو –عقب الحرب على إيران– رؤية تتضمن وقف القتال في غزة خلال أسبوعين، ونفي قيادة حماس، وتشجيع السكان على الهجرة، بالتوازي مع توسيع دائرة اتفاقيات التطبيع (الاتفاق الإبراهيمي)، وإبداء انفتاح إسرائيلي على التواصل مع السلطة الفلسطينية ضمن صيغة حل الدولتين، مقابل اعتراف أميركي بضم إسرائيل لمناطق في الضفة الغربية.
ورغم أن مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية نفى لاحقًا هذه المعلومات، إلا أن مضمونها يعكس منسوب التقاطع العميق بين أجندة الطرفين، ومحاولة واشنطن تدوير زوايا الصراع بما يخدم مشروع الهيمنة الإقليمي.
لا أفق عسكري ونتنياهو يغيّر الأولويات
ترافق الحديث عن فرص التهدئة في قطاع غزة، مع تصاعد التوتر داخل المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، على خلفية تباين التقديرات بشأن مستقبل الحرب، إذ يزداد اقتناع جيش الاحتلال الإسرائيلي بأن العمليات في غزة بلغت حد التشبع، وأن الاستمرار فيها بات دون جدوى، بل ينذر بكلفة أمنية وسياسية باهظة.
في هذا السياق، كشف المحلل العسكري أمير بوحبوط عبر موقع “والا” العبري أن قادة كبارًا في هيئة الأركان وجّهوا رسالة إلى المستوى السياسي، مفادها أن اللحظة الحالية تُعد فرصة سانحة لإنهاء الحرب، ومنح الجيش فرصة لإعادة الترميم والتأهب لمخاطر متصاعدة على جبهات متعددة.
وحذّرت القيادة العسكرية، وعلى رأسها رئيس الأركان إيال زامير، من أن أي عملية عسكرية واسعة جديدة في غزة ستعرّض حياة المختطفين للخطر، وقد تفضي عمليًا إلى فرض حكم عسكري مباشر على القطاع، وهو ما سبق أن رفضته قيادة الجيش الحالية والسابقة.
وفيما كانت اجتماعات “الكابينت” الأمني تشهد نقاشات حادة وغير حاسمة، لجأ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى أسلوبه المعتاد في توجيه المشهد، عبر زيارة استعراضية لمقر جهاز الشاباك، حيث استعرض إنجازات الجهاز، وخاصة ما يتعلق بعمليات استعادة الأسرى من غزة، أحياءً وأمواتًا، وفق ما أوردته إذاعة الجيش.
وأطلق نتنياهو خلال الزيارة رسالة استراتيجية واضحة: “أزلنا تهديدين قاتلين، والفرص الآن مفتوحة بعد النصر على إيران؛ أولها إنقاذ الرهائن، ثم هزيمة حماس”، مشيرًا إلى آفاق إقليمية أوسع، في إشارة إلى استئناف جهود توسيع “اتفاقيات أبراهام”.
#ترامب من جهته رفع سقف التوقعات، وقال إن الاتفاق قد يُوقّع خلال أسبوع.. نتنياهو الأسبوع المقبل مجدّدًا في #واشنطن وسط ضغوط أمريكية متزايدة لإنهاء الحرب في #غزة، إليك التفاصيل 👇 pic.twitter.com/erxoFpoXuZ
— نون بوست (@NoonPost) July 1, 2025
هذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها نتنياهو، بشكل صريح، أن أولوية استعادة الأسرى باتت تسبق هزيمة “حماس”، في تغيير لافت لخطابه الذي ظل لأشهر يؤكد أن “النصر المطلق” لا يكتمل إلا بإسقاط حماس، وليس من خلال صفقات تبادل، لكن هذا التحوّل، لا ينفصل عن سعيه الدائم لضبط الإيقاع السياسي داخليًا، وإعادة ترتيب التوازنات بما يضمن بقائه ممسكًا بكافة الخيوط.
في المقابل، أظهرت تسريبات من جلسات “الكابينت” أن وزراء في الحكومة، من بينهم سموتريتش وبن غفير، رفضوا تقييمات الجيش بشأن نهاية عملية “عربات جدعون”، مؤكدين أن حماس لم تُهزم بعد، بل ذهبوا إلى اتهام المؤسسة العسكرية بـ”تضليل” القيادة السياسية، وبالفشل في إدارة المساعدات الإنسانية.
ودعا سموتريتش إلى إقامة منطقة إنسانية جنوب محور نتساريم، تمهيدًا لمناورة عسكرية واسعة في مناطق “خالية من السكان”، حسب زعمه، وهو ما رفضه زامير معتبرًا أن السيطرة على نحو مليون ونصف مليون إنسان أمر شديد التعقيد ويشكّل خطرًا على القوات.
برزت الخلافات بشكل أكثر حدة حين اتهم بن غفير الجيش بعدم التقدم ميدانيًا، فردّ عليه زامير بأن الجيش يسيطر حاليًا على 75% من القطاع، وأن القرار السياسي هو الذي يحدد ما إذا كانت العمليات ستتواصل.
يُظهر المشهد الإسرائيلي أن نتنياهو يُبقي على الخلافات بين شركاء ائتلافه وقادة جيشه ضمن دائرة السيطرة، لتأمين مساحة المناورة التي تتيح له صياغة المشهد القادم، سواء باتجاه صفقة تهدئة مشروطة، أو إعادة هندسة أهداف الحرب بما يناسب مستقبله السياسي ورؤيته الإقليمية.
الإنهاء الذكي للحرب: مكاسب السياسة بعد إخفاق القوة
في ظل انسداد الأفق العسكري، يبرز توجه إسرائيلي متصاعد للانسحاب المنظّم من مربع القوة العسكرية المباشرة في قطاع غزة، لصالح توظيف أدوات سياسية وأطراف إقليمية ودولية لتحقيق الأهداف ذاتها التي فشلت آلة الحرب في إنجازها طوال ما يقارب 20 شهرًا من المواجهة، وهذا التحول لا يعني تغييرًا في جوهر الأهداف، بل إعادة تموضع في الوسائل وتدوير زاوية الصراع.
بهذا المعنى، يطرح العميد احتياط أودي ديكل، في مقال نشره عبر معهد دراسات الأمن القومي، مقاربة توصف بأنها “الإنهاء الذكي للحرب”، تقوم على قاعدة أن “إسرائيل” أنجزت الحد الأعلى من المكاسب العسكرية الممكنة في غزة، وأن الاستمرار في القتال لن يؤدي إلا إلى الغرق في مستنقع مكلف وغير مثمر.
يؤكد ديكل أن “حماس” فقدت فعليًا مقوماتها كجيش منظم، بعد انهيار بنيتها التحتية، وتصفيات طالت معظم قياداتها، وتحولها إلى نمط مقاومة مشتّتة عبر تكتيكات حرب العصابات، لكن ورغم هذا الإنجاز – وفق ديكل – بقي ملف الأسرى على حاله، دون تقدم يُذكر منذ انطلاق عملية “مركبات جدعون”، وهو ما يفرض فتح مسار سياسي يُترجم الفعل العسكري إلى نتائج ملموسة.
إنهاء الحرب لا يعني الاستسلام لشروط “حماس”، بل هو خطوة استراتيجية قد تحقق لـ”إسرائيل” ما لم تحققه القوة، عبر استعادة الأسرى، وتحصيل شرعية دولية، وإعادة تفعيل مسار التطبيع وخاصة مع السعودية.
ويرى ديكل في المبادرة المصرية، التي تحظى بدعم عربي وإقليمي واسع، أرضية واقعية لهذا المسار، خصوصًا وأنها تتضمن خطوات متدرجة للانسحاب، وتشكيل إدارة جديدة تُقصي “حماس” عن الحكم، وتربط الإعمار بتحقيق الاستقرار.
يُعوّل ديكل على التحولات الإقليمية التي أعقبت المواجهة مع إيران، والتي أضعفت – برأيه – مكانة حماس استراتيجيًا، عبر قطع قنوات الدعم والتمويل والتسليح، فضلًا عن استعداد عدد من العواصم العربية – بينها القاهرة والرياض وأبو ظبي ومسقط – للمشاركة في ترتيبات ما بعد الحرب. ويضيف أن المزاج الشعبي في غزة قد تغيّر بدوره، بفعل الإنهاك الشديد من الحرب، وتراجع الهيبة الأمنية لحماس، مما يفتح الباب لفرض شروط جديدة على الأرض.
وفقًا لرؤية ديكل، فإن الحركة باتت أمام مفترق طرق حاسم: إما مواصلة القتال والمغامرة بالمزيد من الاستنزاف والخسارة، أو القبول بتسوية سياسية تُبقي لها تمثيلًا سياسيًا، لكنها تنزع عنها السلاح والحكم، ويعتبر ديكل أن هذا الخيار، وإن بدا تنازليًا، إلا أنه الأكثر واقعية وفق ميزان القوى القائم.
وفي ختام طرحه، يشدّد ديكل على أن إنهاء الحرب لا يعني الاستسلام لشروط “حماس”، بل هو خطوة استراتيجية قد تحقق لـ”إسرائيل” ما لم تحققه القوة، عبر استعادة الأسرى، وتحصيل شرعية دولية، وإعادة تفعيل مسار التطبيع – وخاصة مع السعودية.
ويقترح آليات واضحة لهذه التسوية، تبدأ بوقف القتال بضمانة أمريكية، ونفي قادة حماس إلى دولة ثالثة، وتشكيل حكومة تكنوقراط بإشراف عربي وفلسطيني، إلى جانب ربط إعادة الإعمار بنزع السلاح، ونشر قوة أمنية مشتركة لضبط القطاع.
في المقابل، يُحذر ديكل من أن الفشل في استغلال هذه اللحظة سيقود إلى سيناريو الفوضى أو الاحتلال المباشر، بما يحمله من أثمان بشرية واقتصادية وتآكل للشرعية الدولية، أما النجاح، فسيعيد لـ”إسرائيل” المبادرة الاستراتيجية، ويمنحها “حق الرد” مستقبلًا إذا ما خُرق الاتفاق من جانب المقاومة.
خطوة ضمن مسار شامل
الإزاحة التدريجية للفعل العسكري الإسرائيلي المباشر، واستبداله بأدوات إقليمية ودبلوماسية، يعبّر عن قناعة مشتركة بين واشنطن وتل أبيب بأن استخدام القوة قد بلغ سقفه، وبات يتطلب “تعقيل” النتائج عبر مسارات سياسية.
وتسير هذه الرؤية على وقع توافق متزايد بين التقييم العسكري الإسرائيلي والطرح الأمريكي، على قاعدة أن الوصول إلى “اليوم التالي” في غزة لا يمكن أن يتم إلا بإشراك القوى الإقليمية في تنفيذ الشروط الإسرائيلية، مع غطاء وضمانة أمريكية مباشرة، وهذا ما يظهر بوضوح في المبادرات المتداولة، التي تتضمن نزع سلاح المقاومة، وتشكيل إدارة انتقالية، وتدويل إعادة الإعمار.
محادثات غير مباشرة بين سوريا والكيان أكد وجودها الرئيس السوري #أحمد_الشرع، في الوقت الذي وضعت صورته بين القادة العرب ونتنياهو وترامب في تل أبيب مع وجود تلميحات أمريكية لانضمام سوريا إلى الاتفاق الإبراهيمي!
فهل اقترب اتفاق التطبيع السوري الإسرائيلي؟#سوريا pic.twitter.com/iyzY9myAZK
— نون سوريا (@NoonPostSY) June 26, 2025
غير أن الأجندة الأمريكية لا تكتفي بملف غزة، بل تسعى لدمجه ضمن استراتيجية إقليمية أوسع تُعاد صياغتها بعد الحرب على إيران، تشمل تثبيت النفوذ، وتوسيع اتفاقات التطبيع، وضبط التوازنات الأمنية في ملفات أخرى كالساحتين السورية واللبنانية.
ولضمان تجاوب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع هذه الرؤية، تعرض واشنطن “سلة مغريات” متعددة المستويات، تبدأ بدعم سياسي داخلي يُلامس حتى إنهاء ملفاته القضائية، ولا تنتهي عند إحياء مسارات التطبيع مع دول عربية وازنة.
بهذا، تتجاوز الصفقة المطروحة كونها مجرد هدنة، لتغدو مدخلًا لتثبيت معادلة إقليمية جديدة تُعيد ضبط توازنات الصراع في المنطقة، وتفتح صفحة جديدة تُصاغ وفق شروط المنتصر السياسي، لا العسكري.