منذ اللحظة الأولى لاندلاع الاشتباك المباشر بين “إسرائيل” وإيران، بدت واشنطن وكأنها تقف على مفترق حاد بين خيارين متناقضين: إما تثبيت مقاربتها الدبلوماسية عبر العودة إلى المسار التفاوضي بشأن البرنامج النووي الإيراني، وإما الانزلاق التدريجي نحو الانخراط في حرب إقليمية مفتوحة.
وفي حين رجَّح كثيرون، في الأسابيع التي سبقت التصعيد، أن الخيار الأول ما يزال الأقرب إلى أجندة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خصوصًا في ظل دعوته المتجددة إلى عقد “صفقة كبرى” مع طهران تتضمَّن مهلة زمنية محددة، سرعان ما دفعت المعطياتُ الميدانيةُ المشهدَ نحو منعطف مختلف.
الهجوم الإسرائيلي المباغت على إيران، والذي نُفِّذ في لحظة فارقة غداة انتهاء المهلة الأمريكية، شكَّل نقطة تحوُّل خطيرة، دفعت واشنطن إلى مغادرة منطقة الغموض الاستراتيجي، والاقتراب خطوةً بعد أخرى من قلب المعركة.
وبين دعم دفاعي مباشر، وتنسيق استخباري متقدِّم، ورسائل سياسية غير مسبوقة في لهجتها ومضمونها، بدا أن الموقف الأمريكي يتدرَّج من الإلحاح على التفاوض إلى الاشتراك الفعلي في إدارة المعركة، إذ لم يعد الدور الأمريكي مقتصرًا على التسهيل أو الضغط الدبلوماسي، بل بات يمتد إلى هندسة الرؤية الاستراتيجية للعملية، حيث يُعاد تعريف “الحسم” بوصفه شرطًا لازمًا لمنع إيران من بلوغ العتبة النووية.
ما المعادلة الحقيقية التي تحكم سلوك الولايات المتحدة في هذه المواجهة؟ وهل ما تزال واشنطن تقود الحرب من خلف ستار أم أنها تتهيَّأ بالفعل للتقدُّم إلى الواجهة بِاسم “استكمال ما عجزت عنه “إسرائيل”؟.
التفاوض كأداة احتواء مؤقت
مع بداية التصعيد بين “إسرائيل” وإيران، بدت واشنطن متمسكة بخيار التفاوض، مستخدمة إياه أداةً لاحتواء الموقف، لا بوصفه مسارًا لحل حقيقي، فقد عرض دونالد ترامب، العائد إلى البيت الأبيض بشعار “السلام عبر القوة“، على طهران صفقة نووية معدَّلة، مُرفَقة بمهلة زمنية حادة من 60 يومًا، مع تهديدات صريحة بعواقب وخيمة في حال الرفض.
مهَّدت الرسالة التي كشفت عنها مصادر غربية، وشكَّلت مدخلًا رئيسيًّا لاستئناف المسار التفاوضي، لانعقاد خمس جولات من المفاوضات غير المباشرة، اختُتمت بصيغة أمريكية تضمنت بنودًا وصفتها طهران بـ”الانتقاصية”، لتجاهلها أبرز مطالبها، مثل الرفع الكامل للعقوبات، وشطب الحرس الثوري من قوائم الإرهاب، والاعتراف بحق إيران في تخصيب اليورانيوم.
ردًّا على ذلك، أكد وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، أن “إيران لا تفاوض تحت التهديد”، في ما عُدَّ رفضًا قاطعًا للعرض الأمريكي، ورغم تزايد التوتر، واصلت الإدارة الأمريكية الحديث عن التفاوض، محاولةً تسويق موقفها داخليًّا وخارجيًّا على أنه سلمي، وأن الكرة في ملعب طهران.
وصرح المبعوث الأمريكي، ستيف ويتكوف، بأن “وقف تخصيب اليورانيوم” شرط أساسي لأي اتفاق، مشددًا على أن امتلاك إيران لسلاح نووي “غير مقبول مطلقًا”، لكن خلف هذا الخطاب، كانت واشنطن ترفع جهوزيتها العسكرية ميدانيًّا، وتُحرِّك قواتها في الخليج، فيما أكدت وزارة الدفاع أن تحركاتها “وقائية”، لا استعدادًا لحرب وشيكة.
في الجوهر، لم يكن التفاوض هدفًا بحد ذاته، بل كان غطاءً سياسيًّا لتأجيل المواجهة وتحضير خيارات التصعيد، فقد لخَّص ذلك الكاتب، مارك ثيسن، المعروف بتأييده لترامب، في “واشنطن بوست”، قائلًا: “يمتلك ترامب النفوذ للمطالبة بتفكيك كامل للبرنامج النووي، وإذا رفضت إيران فلدينا خيار متفجر”.
هكذا، مثَّل المسارُ التفاوضيُّ مرحلةَ “الاحتواء المشروط”، أبقت فيها واشنطن الباب مواربًا، لا لرهانها على الحل، بل لاستنزاف الوقت، وتحميل طهران مسؤولية الانفجار إن وقع، وكانت في طريقها فعليًّا لإعادة رسم خطوط الصراع بطريقة أكثر حدة.
من الخداع السياسي إلى الانخراط المحسوب
في الأسابيع التي سبقت الهجوم الإسرائيلي المباغت على إيران، اتبعت واشنطن سياسة “الصمت الاستراتيجي”، مكتفية بالمراقبة الحثيثة لمؤشرات الموقف الإيراني، ومدركة مسبقًا أن العرض النووي المقدَّم لن يُقابل بقبول.
ومع تزايد مؤشرات الرفض الإيراني، بدا أن إدارة ترامب تتهيأ لمرحلة جديدة، تُحرِّك فيها أدواتٍ بديلة، وتُلوِّح لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بضوء “بين الأخضر والأصفر“، وفق تعبير ريتشارد هاس، لتنفيذ ضربة تعيد رسم قواعد الاشتباك في المنطقة.
استندت المناورة الإسرائيلية إلى خطاب مزدوج، تُصرِّح فيه بالتمسك بالتهدئة بينما تمضي سرًّا في التخطيط للضربة، وهذا الأسلوب لم يكن غريبًا عن واشنطن، بل على العكس، كشفت مصادر أمريكية عن تنسيق استخباري عالي المستوى بين “الموساد” ووكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA) في الأيام العشرة التي سبقت الضربة.
ورغم امتناع البيت الأبيض عن إعلان علمه المسبق، أوحت التحركات الميدانية الأمريكية بغير ذلك، فقد أُجلِي دبلوماسيون من الشرق الأوسط، وصدرت تحذيرات أمنية في الأراضي المحتلة، بينما روَّجت وسائل الإعلام القريبة من الإدارة إلى أن المفاوضات لم تنتهِ بعد، وأن المبعوث ستيف ويتكوف بصدد التوجه إلى مسقط لجولة تفاوضية جديدة.
وقد زادت الرسائل من قناعة طهران بأن الضربة –إن وقعت– لن تسبق الجلسة، بل ستأتي في ضوء نتائجها، ما أدى إلى سوء تقدير إيراني ساهم في نجاح الضربة الإسرائيلية المباغتة.
نُفِّذَت الضربة، التي استهدفت منشآت استراتيجية في أصفهان وطهران وقرب أراك، بتخطيط مشترك دون مشاركة علنية أمريكية في التنفيذ، إلا أن تقارير متعددة، منها تقرير بروكينغز (17 يونيو/حزيران 2025)، أكدت أن واشنطن قدَّمت دعمًا استخباريًّا، وأسلحة نوعية، وبيانات أهداف دقيقة، ما سمح لـ”إسرائيل” بشن الضربة بينما تظل واشنطن في موقع “العارف غير المتورط”.
لكن مع انطلاق الرد الإيراني الصاروخي، تبدَّل المشهد، فمع تساقط الصواريخ والمسيَّرات على المدن المحتلة، أظهرت واشنطن وجهها الآخر كفاعل عسكري، فمنذ اللحظة الأولى، شاركت أنظمة الدفاع الجوي الأمريكية المنتشرة في قواعد الخليج والأردن وشرق المتوسط في اعتراض عشرات الصواريخ والطائرات المسيَّرة الإيرانية، كما اعترضت مقاتلات أمريكية انطلقت من قاعدة “عين الأسد” بالعراق عددًا من المسيَّرات من مسافة تفوق 650 كيلومترًا.
ووفق شبكة NBC وصحيفة “جيروزاليم بوست”، شاركت أيضًا سفن حربية أمريكية في صد الهجمات الإيرانية، فيما قال نتنياهو إن “الطيارين الأمريكيين يسقطون المسيَّرات المتجهة نحو إسرائيل”، رغم ذلك، حرصت واشنطن على تأكيد أن تدخلها لا يعني التورط في حرب، بل يندرج ضمن “الدفاع المحض”. وقال وزير الدفاع بيت هيغسث: “نحن في وضع دفاعي لحماية أفرادنا ومصالحنا، ولسنا بصدد التصعيد”.
وأما ترامب، فشدَّد على أن بلاده “سترد بقوة غير مسبوقة” إذا استُهدِفت مباشرة، لكنه أشار أيضًا إلى أن باب المفاوضات ما يزال مفتوحًا، مضيفًا في حديث لقناة “فوكس”: “نراقب رد إيران، ونأمل في اتفاق، لكن قادة في إيران لن يكونوا موجودين لاحقًا”.
وقد جسَّد هذا التوازن بين الانخراط العسكري والنفي السياسي استراتيجية أمريكية محسوبة تقوم على مبدأ: المشاركة دون التورط، ففي الوقت الذي كانت فيه الدفاعات الأمريكية تعمل في الجو، كانت القنوات الخلفية تتحرك في العواصم الأوروبية والخليجية، ناقلة رسائل “منضبطة” إلى طهران بأن واشنطن لا تنوي توسيع الاشتباك، شرط أن يبقى الرد الإيراني ضمن حدود “الرمزية المدروسة”.
وعليه، يمكن تلخيص الموقف الأمريكي في هذه المرحلة بعبارة: “لن نبدأ الحرب، لكننا لن نسمح بخسارة حلفائنا”، والتي تعكس بوضوح جوهر “الاشتباك المرن” الذي تتبعه واشنطن: لا تفريط بالتحالف مع “إسرائيل”، ولا تسرع في الانجرار إلى حرب شاملة، بل دعم محسوب ومتدرج، يوازن بين الردع العسكري والانفتاح السياسي، ويبقي خيارات الطاولة مفتوحة في ضوء التقييم المستمر.
من الدفاع إلى الهجوم: واشنطن تقترب من قرار الحرب
مع تصاعد وتيرة الاشتباك بين “إسرائيل” وإيران إلى مستويات غير مسبوقة، وتنامي الرد الإيراني في الشكل والدقة والتأثير خصوصًا بعد تجاوز أثر الضربة الإسرائيلية الأولى، بدا أن سياسة “الدعم الدفاعي المنضبط” التي تبنتها واشنطن لم تَعُد كافية،إذ بدأت مؤشرات التحول في الموقف الأمريكي في الظهور، شيئًا فشيئًا، حتى بلغت نقطة انعطاف استراتيجية تُنذر بانخراط مباشر في الحرب.
في منتصف يونيو/حزيران، غادر ترامب مربع التهديدات المبطَّنة، متبنيًا خطابًا صريحًا يدعو إلى الحسم، ففي منشورات له، عبر منصته “تروث سوشال”، كتب: “لن تسمح الولايات المتحدة لإيران بامتلاك سلاح نووي. انتهى وقت التفاوض، وحان وقت القرار. على النظام الإيراني الاستسلام أو مواجهة القوة الأمريكية الكاملة”.
هذا التصريح، الذي أسقط آخر أوراق الدبلوماسية، ربط البرنامج النووي الإيراني بـ”التهديد الوجودي” للأمن القومي الأمريكي والإسرائيلي، في تحوُّل مفاهيمي بالغ الخطورة، نقل الأزمة من نطاقها الإقليمي إلى إطار صراع عالمي يستوجب الحسم العسكري.
لم يتوقف التصعيد عند الكلمات، فقد نشر ترامب بنفسه رسالة وصلته من السفير الأمريكي لدى “إسرائيل”، مايك هاكابي، شبَّه فيها ضمنيًّا اللحظة الراهنة بـ”لحظة هيروشيما”، ودعاه إلى التدخل في الحرب “تمامًا كما فعل ترومان لإنهاء الحرب العالمية”.
مايك هاكبي، السفير الأميركي الجديد لدى “إسرائيل”، أرسل لـ #ترامب رسالة نصية يقترح فيها استخدام قنبلة نووية ضد #إيران.
وصف قراره بأنه “مشابه لقرار ترومان عام 1945” عندما قصف هيروشيما وناغازاكي.
الرسالة تأتي في وقت تطلب فيه حكومة نتنياهو من ترامب مزيدًا من التصعيد ضد إيران. pic.twitter.com/9wx3ZB1t81
— نون بوست (@NoonPost) June 18, 2025
على نطاق واسع، فُهم عدم رفض ترامب للرسالة، بل نشرها مثل إقرار ضمني، بوصفه تبنيًا صريحًا لفكرة الحسم العسكري، بل ومقدمة لتأهيل الرأي العام الأمريكي والدولي لتدخل مباشر. وأما الأخطر، فكان تهديد ترامب العلني للمرشد الإيراني علي خامنئي، بقوله: “نعلم تمامًا أين يختبئ ما يُسمى بالمرشد الأعلى. إنه هدف سهل، لكنه آمن حتى الآن. لن نستهدفه.. على الأقل في الوقت الحالي. لكن صبرنا بدأ ينفد”.
هذا التهديد غير المسبوق في حدته من رئيس أمريكي لشخص المرشد الإيراني أعاد رسم خطوط المواجهة بالكامل، ودفع بالمحللين إلى تأكيد أن واشنطن باتت ترى أن الخيار العسكري المباشر الطريق الوحيد لتحقيق أهدافها، بعد فشل “إسرائيل” –رغم الكثافة النارية– في تحييد القدرات الإيرانية الأساسية، وعلى رأسها المنشآت النووية المحصنة.
وتؤكد تقارير استخباراتية أن منشأة “فوردو” النووية –المحصنة بعمق هائل تحت الأرض– ما تزال خارج نطاق القدرة التدميرية لسلاح الجو الإسرائيلي، ما دفع أصواتًا داخل البنتاغون إلى الحديث عن جاهزية خطط لاستهدافها بطائرات B-2 الأمريكية، حال اتخاذ القرار السياسي النهائي.
من جهة أخرى، أظهر الرد الإيراني المؤثر –بطائرات وصواريخ دقيقة استهدفت قواعد حساسة– أن طهران تمتلك قدرة على خوض اشتباك استنزافي طويل الأمد، ما ينذر بإرهاق عسكري وسياسي لـ”إسرائيل”، وفشل تدريجي لأهداف حملتها.
منشأة محصّنة في عمق الجبل.. فوردو تُقلق “إسرائيل” وتُحرّك حسابات واشنطن نحو تدخل محتمل ضد #إيران. pic.twitter.com/0c8l6rh1FQ
— نون بوست (@NoonPost) June 18, 2025
وفي هذا السياق، نقلت هيئة البث الإسرائيلية عن مسؤول رفيع قوله: “إذا لم تنضم إلينا الولايات المتحدة، فلن نتمكن من إلحاق ضرر فعلي بمنشأة فوردو النووية.. لن يرضى ترامب بأن يُذكر أنه وقف على الحياد”. وعلى هذا الأساس، يبدو أن واشنطن باتت تدرس الانخراط وفق ثلاث مستويات تصاعدية:
- استمرار الدعم الاستخباري واللوجستي للهجمات الإسرائيلية.
- مشاركة مباشرة في ضربات نوعية لا تستطيع “إسرائيل” تنفيذها بمفردها.
- التحول إلى طرف مباشر في الحرب إذا اتسعت الردود الإيرانية أو استُهدفت القوات الأمريكية.
لا يعكس هذا التحوُّلُ فشلَ المسار التفاوضي فحسب، بل يعكس أيضًا اقتناعًا راسخًا في دوائر القرار الأمريكي بأن “إسرائيل”، رغم الدعم الكامل، لا تستطيع حسم المعركة وحدها، وهنا تتبلور فكرة “الحسم المشترك”؛ أي إن “إسرائيل” تشعل المعركة، والولايات المتحدة تضمن ألَّا تنطفئ قبل تحقيق الأهداف.
ورغم أن التصريحات الدبلوماسية ما تزال تتحدث عن “عرض الفرصة الأخيرة”، تشير المعطيات الميدانية إلى أن القرار قد اتُّخذ، وأن ما يجري الآن هو ترتيب الدخول الأمريكي إلى الحرب، لا منعه، ما يضع المنطقة أمام لحظة شديدة الخطورة قد تفتح الباب على حرب إقليمية واسعة لا يمكن التنبؤ بحدودها ولا بتأثيراتها.
وربما يكون من المفيد التذكير، في هذا السياق، بأن آخر “حسم أمريكي” في الشرق الأوسط انتهى بغزو العراق، وما خلَّفه من فوضى مزَّقت المنطقةَ لعقود. والسؤال المطروح اليوم: هل كانت الولايات المتحدة تضع نصب عينيها الوصول إلى نتيجة مشابهة، أم أن بنيامين نتنياهو نجح في تأطير الموقف الأمريكي بما يخدم رؤيته لمستقبل شرق أوسط تتسيَّده “إسرائيل”؟
مع تأكيد أن كلا الحليفين يشتركان في أولوية استراتيجية واضحة: استثمار اللحظة التاريخية لتصفية كل الحسابات العالقة في الإقليم، بما يخدم مصالحهما، حتى وإن كان ذلك على حساب شعوب المنطقة، ودولهم، ومستقبل أجيالهم القادمة.